التسامح الإنساني والتقدم الحضاري
يُعدُّ التّنوّع في ثقافة وفِكر واعتقاد ورغبات البشر مِن سُنَن الخالق تعالى في الكون؛ المُسَلَّم في الآية الكريمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)، ومَفادها أنْ يتبادل الناس الخِبرات، ويَمُدّون جُسور التّواصل والتّعارف بينَهم، في إطار قِيَم التّسامح الإنساني، لِغاية تحقيق التضامن والتَّعاون، والتقدم الحضاري للوجود الإنساني. فالدّراسات الحَديثة تُشير إلى أنَّ الحَضارات التي استطاعتْ أنْ تَخدم الإنسانيّة هي تِلك التي قامت على أصلِ التّسامح، واحترامِ المبادئ الإنسانيّةِ النّبيلة، والالتزام بالقِيم الأخلاقية، وتقدير الإنسان والمُحافظة على حُقوقِه، وتوفير الحُريّة والسّعادة لَه. والنُّصوص التّاريخيّة تُبيّن أنَّ المُجتمعات قد عَرفتْ أزهى عُصور الحضارة، عِندما سادَتْها روح التَّسامح، فصارت مَنارة للعِلم والحضارة ، ومِن أبرزِ هذه المَحطّات الرّائدة في التاريخ العربي الإسلامي على سبيل المِثال لا الحَصر مَحطَّة الأندلس، حيث استطاع الأَسلاف تأسيس حضارة عظيمة امتدَّت على مَدى قُرونٍ طِوال، تَركتْ العديد مِن مَظاهر الرِّفعة لِهذه الحضارة، حيثُ استطاع المُجتمع الأندلسي أنْ يتآلف بين العديد مِن الفِئات المُجتمعية المُختلفة، والديانات المُتعددة، مِن أجلِ تحقيق مَصلحتِه العُليا، فكانت الأندلس بذلك مَضرِباً للمَثل في التَّسامح الديني والعلاقات الإنسانيّة ، والتَّعايش المُشترك المَبني على المَودّة والاحترام والتّراحم. فمِن خلال التجربة التاريخيّة السَّابقة يتَّضح أنَّ التَّسامح حاجةٌ مُجتمعيَّة مُلحَّةٌ لكافَّةُ المُجتمعات البَشريَّة لإنشاء الحضارات وضَمان تقدُّمها، فالصّورة الأخلاقيَّة والقيمِيّة للتَّسامح تنعكِس على جميع أنظمة المُجتمعات وازدهارِها. إنَّ هذا التّميّز الحضاري الأندلسي دفعَ بالباحثين في الحضارة الإنسانيَّة وفي الثقافات المُختلفة، إلى الاهتمام بالأندلس، فدَرسوا مُجتمعها وآدابها وعلومها المَنقولة والمعقولة المُتطوّرة كالمناظرات الدينيّة وفنون القول، ونُشوء عِلم مُقارنة الأديان مع الإمام ابن حزم القُرطبي، والإسهامات الفِكرية للعُلماء والفقهاء، وفي المِعمار الهندسي البَديع وفي الفِلاحة وفي شتّى المَجالات الاجتماعية والعِلمية والإدارية والاقتصادية، وهي مُؤشّرات قويَّة على مَظاهر التَّحضُّر والرقي بفضل التسامح الإنساني السّائِد. ومِن التَّجارب الإنسانية لِشرق آسيا تَجارِب مُعتبرة كانت سبباً في تقدُّمها الحضاري، منها حقَّقته الكونفوشيوسيَّة مِن رُقي بناءً على النَّزعة الخيريَّة مِن أمانة وتسامح لغرض إسعاد البشر وضَمان أعلى درجات الاحترام والتَّقارب، بالتركيز على التَّعليم كمدخل لإصلاح المُجتمعات، واعتبار أنَّ أساس التقدم هو إعلاء الاخلاق والفضيلة في حياة النّاس في إطار التّسامح. إنَّ التَّجرِبة المثمرة التي خاضَتها الحَضارة الإسلامية عُموماً في مَجال التّسامح الديني وحِوار الحَضارات كانت رائِدة بكلِّ المَقاييس، ومِمّا لاشكَّ فيه أنها تدين بهذه الرّيادة لمَرجعيَّة الإسلام وقيمِه الإنسانية، ونظرتِه للإنسان بما يُناسٍب احتياجاته المُختلفة وتوجُّهاته نحو تعمير الكون مِن حوله.