التسامح المستدام
تعتبر الأعمال المستدامة مِن المُمارسات الإنسانية المُعاصرة التي تضمن استمرار مُقومات الحياة الرغيدة للمجتمعات البشرية القائمة وللأجيال القادمة في العديد مِن جوانب حياة الإنسان البيئية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية . فالاستدامة المطلوبة لإسعاد المجتمعات البشرية لا تعتبر مُتكاملة إلا إذا شملت على الأبعاد والمجالات السابقة وبِما أنَّ الدين جزء لا يتجزأ مِن الهوية الاجتماعية والثقافية لأي مجتمع بشري، اعتنت المؤسسات الرسمية به، وأَوْجدت سُبل استدامة التسامح فيه، وذلك لخلق جيل مُتعاون على تطوير المجتمع مهما تنوّعت قناعاتهم. ومِن أثمنِ المكاسب الحضارية للإنسان تحقيقه لقيم التَّسامح بين المُكوِّنات الثقافية والدينية والعرقية للمجتمعات، غير أنَّ التَّحدي الذي يلي هذا الإنجاز يتجلّى في كيفية الحِفاظ على هذه المنظومة مِن القيم، وجَعلها ثقافة حاضرة ودائِمة في فِكر وَوِجدان أفراد المُجتمع، ومُستمرة في مُمارساتِهم اليومية بل ونقلها إلى الأجيال القادمة، بما يتلاءم مع الاحتياجات المُجتمعية المُتعدِّدة والمُتغيِّرة. لقد شرع الحديث عن "استدامة التسامح" في سياق بداية الاهتمام العام بمفهوم "الاستدامة" على الصّعيد العالمي في ثمانينيات القرن المُنصرم، إثر تقرير التنمية البيئية المُقدّم لهيئة الأمم المُتَّحدة في عام 1987 ، وما عقِبه مِن تطوير أبعادِه ممَّا أسهم في الانتشار الدولي لهذا المفهوم وتطبيقاته بفضل توالي الدراسات في هذا المجال . وقد كان لإعلان مبادئ التسامح الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين بباريس، (16 -نوفمبر 1995)، الدور الكبير لتأسيس المفهوم المعاصر للتسامح، حيث أتى بالدعوة الصريحة إلى تعميم التسامح ومأسَسته والسّير به إلى فضاءات أرحب نحو الاستدامة. كما أكَّد الإعلان على ضرورة القبول بالآخر وتقديره والتواصل معه والانفتاح عليه؛ مِن غير تقليل أو ازدراء مباشر أو غير مباشر لثقافته ومعتقداته ومُمارساته المنبثقة عن عقائده وقناعاته الشخصية. إنَّ أهمّية استدامة التسامح تتجلّى في العناية بالمصادر والمعاني الحيوية للإنسان بل والمحافظة عليها لضمان استمرارية التنمية، واستمرار السّعادة لعقود طويلة تتمتع بها الأجيال الصّاعدة في ظلَّ التنوّع، غير أنَّ تطبيق هذا المشروع التّنموي يستلزم بعض الأسس الجوهرية المُثبتة لثقافة التسامح ذات الصِّلة بالفكر الإنساني والثقافة الاجتماعية والتشريعات القانونية. فمِن خلال أُسس ثقافة التسامح يتم الوصول بالمجتمع إلى التَّكامل بين أطياف المُجتمع ويشتركون في سعيهم للعيش في وئام وسلام، وتحقيق طموحاتهم ومصالحهم الحالية والمآلية.